الجمعة، 21 ديسمبر 2012

حكم صلاة الجماعة هل هي فرض عين ام كفاية ام سنة مؤكدة

صلاة الجماعة من كتاب الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله المجلد الرابع

صلاةُ الجماعةِ مشروعةٌ بإجماعِ المسلمين، وهي مِن أفضلِ العبادات
وأجَلِّ الطَّاعات، ولم يُخالفْ فيها إلا الرَّافضةُ الذين قالوا: إنَّه
لا جماعةَ إلا خَلْفَ إمامٍ مَعصومٍ. ولهذا لا يُصلُّون جُمُعةً ولا
جماعةً، قال فيهم شيخُ الإسلام رحمه الله: إنهم هجروا المساجدَ وعَمَرُوا
المشاهدَ. أي: القبورَ فهم يتردَّدُون إليها للتوسُّل بها ودعائها. وأما
المساجد فلا يعمرونها بالجماعة فيها،
وإلا فإنَّ المسلمينَ جميعاً
اتَّفقوا على مشروعيَّتها. ولم يقلْ أحدٌ بأنها غيرُ مشروعةٍ، ولا بأنها
جائزةٌ، ولا بأنها مكروهةٌ، لكن اختلفوا في فرضيَّتها هل هي فَرْضُ
عَيْنٍ، أم فَرْضُ كِفايةٍ، أم سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ؟.

وعلى القولِ بأنَّها فَرْضُ عَيْنٍ، هل هي شَرْطٌ لصحَّةِ الصلاةِ أم لا؟
قوله: «تلزم الرجال» .
اللزومُ: الثبوتُ، فلزومُ الشَّيءِ، يعني: ثبوتَه، وشيءٌ لازمٌ، أي:
ثابتٌ لا بُدَّ منه، والفقهاءُ رحمهم الله تارةً يعبِّرون بـ (تلزم)
وتارة يعبِّرون بـ (تجب) وتارة يعبِّرون بـ (فرض) وما أشبه ذلك، وكلُّها
عبارات مختلفة اللَّفظِ متَّفقةُ المَعنى، واللَّفظُ المختلفُ مع
اتِّفاقِ المعنى يُسمَّى عند علماءِ اللغة: مترادفاً.
فنبدأُ أولاً بذِكْرِ دليلِ الحُكمِ الذي هو اللُّزوم. فدليلُ وجوبها مِن
كتابِ الله وسُنَّةِ رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعَمَلِ الصحابةِ رضي
الله عنهم.
أما الكتابُ فقول الله تعالى: {{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}}
فاللامُ
للأمْرِ، والأصلُ في الأمْرِ: الوجوبُ. ويؤكِّد أنْ الأمْرَ للوجوب هنا:
أنَّه أمَرَ بها مع الخوفِ مع أنَّ الغالبَ أنَّ الناسَ إذا كانوا في
خَوْفٍ يشُقَّ عليهم الاجتماع ويكونون متشوِّشين يحبُّون أنْ يبقى أكثرُ
النَّاسِ يرقبُ العدوَّ {{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ}}
سَجَدوا بمعنَى: أتمُّوا صلاتَهم.
{{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا}} أي: لم يصلُّوا مع الأُولى.
{{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}}.
فهنا أَمَرَ اللهُ عزّ وجل بصلاةِ الجماعةِ وتفريقِ الجُندِ إلى طائفتين،
فيُستفادُ منه أنَّ صلاةَ الجماعةِ فَرْضُ عينٍ.
ووجه ذلك: أنَّها لو كانت فَرْضُ كِفايةٍ لسَقَطَ الفرضُ بصلاةِ الطائفة الأُولى.
أما السُّنَّةُ: فالأدَّلةُ فيها كثيرةٌ منها:
1- حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم
قال: «لقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقامَ. ثم آمُرَ رَجُلاً
فيصلِّيَ بالنَّاسِ. ثم انطلقَ معي برِجَالٍ معهم حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى
قَوْمٍ لا يشهدُون الصَّلاةَ؛ فأُحَرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنَّارِ»
[(252)] فقد هَمَّ بذلك؛ لكنَّه لم يفعلْ، ولم يمنعْهُ مِن الفِعْلِ أنَّ
الصَّلاةَ ليست بواجبةٍ؛ إذ لو كانت غيرَ واجبةٍ ما صَحَّ أنْ ينطِقَ
بهذا اللفظِ، ولكان هذا الكلامُ لغواً لا فائدةَ منه، لكن الذي مَنَعَهُ
ـ والعِلْمُ عند اللهِ ـ أنَّه لا يُعاقِبُ بالنَّارِ إلا رَبُّ النَّارِ
عزّ وجل، وإنْ كان قد رَوى الإمامُ أحمدُ أنَّه قال: «... لولا ما فيها
مِن النِّساءِ والذُّرِّيَّةِ» [(253)] وهذه الزيادةُ ضعيفةٌ، ولسنا
بحاجةٍ لها، بل الذي مَنَعَهُ أنَّه لا يعاقُب بالنَّارِ إلا اللهُ.
2- «استأذَنه رجُلٌ أعمى أن لا يُصلِّيَ في المسجدِ، قال: هل تسمعُ
النداءَ؟ قال: نعم، قال: فأجِبْ» [(254)].
3- أخرجَ أصحابُ السُّنَنِ أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«مَنْ سَمِعَ النِّداءَ فلم يُجبْ؛ فلا صلاةَ له إلا مِن عُذْرٍ»
[(255)].
4- وأمَّا عَمل الصحابة فقد جاء في «صحيح مسلم» عن ابنِ مسعود رضي الله
عنه أنَّه قال: «لقد رَأيتُنَا ـ يعني: الصحابة مع رسولِ الله صلّى الله
عليه وسلّم ـ وما يتخلَّفُ عنها إلا منافقٌ معلومُ النِّفاقِ، ولقد كان
الرَّجلُ يُؤتَى به يُهادَى بين الرَّجُلينِ حتى يُقامَ في الصَّفِ»
[(256)]. كان الرَّجُلُ يُؤتَى به يمشي بين الرَّجلُين حتى يقامَ في
الصَّفِّ دَلَّ ذلك على اهتمامهم بها، وأنَّهم يَرون وجوبَها وامتناعَ
التخلُّفِ عنها.
ويُضافُ إلى ذلك: ما فيها مِن المصالحِ والمنافعِ التي تدلُّ على أنَّ
الحِكمةَ تقتضي وجوبَها ومنها:
1 ـ التوادُّ بين النَّاسِ؛ لأنَّ ملاقاةَ النَّاسِ بعضهم بعضاً
واجتماعهم على إمامٍ واحدٍ في عبادةٍ واحدةٍ ومكان واحدٍ يؤدِّي إلى
الألفة والمحبة.
2 ـ التَّعارفُ، ولهذا نَجِدُ أنَّ النَّاسَ إذا صَلَّى عندَهم رَجُلٌ
غريبٌ في المسجدِ، فإنَّهم يسألون عنه مَن هذا؟ مَن الذي صَلَّى معنا؟
فيحصُلُ التَّعارفُ، والتَّعارفُ فيه فائدةٌ وهي: أنَّه قد يكون قريباً
لك فيلزمُك مِن صِلَتِهِ بِقَدْرِ قرابته، أو غريباً عن البلد، أو غير
ذلك، فتقومُ بحقِّهِ.
3 ـ إظهارُ شعيرةٍ مِن شعائر الإسلام، بل مِن أعظمِ شعائرِ الإسلامِ وهي
الصَّلاةُ، لأنَّ النَّاسَ لو بقوا يصلُّون في بيوتهم ما عَرَفَ أنَّ
هنالك صَلاةً.
4 ـ إظهارُ عِزِّ المسلمين إذا دخلوا المساجدَ ثم خرجوا جميعاً بهذا الجَمْعِ.
5 ـ تعليمُ الجَاهلِ، فإنَّ كثيراً مِن النَّاسِ يستفيد ما يُشرع في
الصَّلاةِ بواسطة صلاةِ الجماعة، حيث يقتدي بمَن على جانبه، ويقتدي
بالإمام وما أشبه ذلك.
6 ـ تعويدُ الأمَّةِ الإسلاميةِ على الاجتماعِ وعدم التفرُّق؛ لأنَّ هذا
الاجتماعَ يُشكِّلُ اجتماع الأمَّة عموماً؛ إذ إن الأمَّةَ عموماً مجتمعة
على طاعةِ ولي أمرِها وقائدِ مسيرتها حتى لا يختلفوا ويتشتَّتوا، فهذه
الصَّلاةُ في الجماعة وِلاية صُغرى؛ لأنهم يقتدون بإمامٍ واحدٍ يتابعونه
تماماً، فهي تشكِّلُ النَّظرةَ العامةَ للإسلامِ.
7 ـ ضبطُ النَّفسِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا اعتادَ على أن يتابعَ إماماً
متابعةً دقيقةً، إذا كبَّرَ يكبِّرُ، لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ كثيراً،
ولا يوافق، بل يتابعُ، تعوَّدَ على ضَبْطِ النَّفسِ.
8 ـ استشعارُ النَّاسِ بهذا وقوفهم صفًّا في الجهاد، كما قال الله تعالى:
{{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا}}
[الصف: 4] ، وهؤلاء الذين صاروا صَفًّا في الجهاد؛ لا شَكَّ أنهم إذا
تعوَّدوا ذلك في الصلواتِ الخمسِ سوف يكون وسيلةً إلى ائتمامِهم بقائِدهم
في صَفِّ الجِهادِ حيث لا يتقدَّمون ولا يتأخَّرون عن أوامره.
9 ـ تذكرُ المصلين صفوف الملائكة عند الله تبارك وتعالى فيزدادون بذلك
تعظيماً لله ومحبة لملائكة الله.
10 ـ شعورُ المسلمين بالمساواة في عبادة الله تعالى؛ لأنه في هذا المسجدِ
يجتمعُ أغنى النَّاسِ إلى جَنْبِ أفقرِ النَّاسِ، والأميرُ إلى جَنْبِ
المأمورِ، والحاكمُ إلى جَنْبِ المحكومِ، والصغيرُ إلى جَنْبِ الكبير،
وهكذا فيشعرُ الناسُ بأنهم سواء في عبادة اللهِ، ولهذا أمَرَ بمساواةِ
الصُّفوفِ حتى قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تختلفوا فتختَلِفَ
قلوبُكم» [(257)].
11 ـ ما يحصُلُ مِن تفقُّدِ الأحوالِ أحوال الفقراء، والمرضَى
والمتهاونين بالصَّلاةِ، فإنَّ الإنسانَ إذا رُئيَ مع النَّاسِ وعليه
ثيابٌ بالية ويبدو عليه علامة الجوعِ رحِمَهُ النَّاسُ، ورَقُّوا له،
وتصدَّقوا عليه، وكذلك إذا تخلَّفَ عن الجماعة عَرَفَ النَّاسُ أنه كان
مريضاً مثلاً أو غير ذلك فيسألون عنه، وكذلك إذا علموه متخلِّفاً عن
الصَّلاة بلا عُذْرٍ اتَّصلُوا به ونصحوه.
12 ـ الأصلُ الأصيل وهو التعبُّد لله تعالى بهذا الاجتماع.
13 ـ استشعارُ آخِرِ هذه الأمة بما كان عليه أولُها، أي: بأحوال
الصَّحابةِ، كأنما يستشعرُ الإمامُ أنَّه في مقامِ الرَّسولِ صلّى الله
عليه وسلّم في إمامةِ الجماعة فيتأسَّى به فيما ينبغي أن يكون عليه في
الإمامة، ويستشعرُ المأمومون أنهم في مقام أصحابِ الرَّسولِ عليه الصلاة
والسلام، فلا يتخلَّفُون عن الجماعة إلا لعذر ولا يفرِّطون في متابعة
الإمام، ولا شَكَّ أنّ ارتباطَ آخِرِ الأمةِ بأوّلِها يعطي الأمةَ
الإسلاميَّةَ دُفعةً قويةً إلى اتِّباعِ السَّلفِ واتِّباعِ هديهم،
وليتنا كُلَّما فعلنا فِعْلاً مشروعاً نستشعرُ أننا نقتدي برسولِ الله
صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابِهِ الكرام، فإنَّ الإنسانَ لا شَكَّ سيجِدُ
دُفعةً قويةً في قلبِهِ تجعلُه ينضمُّ إلى سِلْكِ السَّلفِ الصَّالحِ،
فيكون سلفيًّا عقيدةً وعملاً، وسُلوكاً ومنهجاً.
هذه أدلة من قال إنَّ صلاة الجماعة فَرْضُ عَيْنٍ، وهي أدلَّةٌ مَن
اطَّلعَ عليها لم يسعه القول بغير هذا.
وقال بعض العلماء: إنها فرض كفاية.
وقال آخرون: إنها سُنَّةٌ.
واستدلَّ مَن قالَ بأنَّها سُنَّةٌ بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلاةُ
الجَماعةِ أفضلُ مِن صَلاةِ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشرينَ دَرجةً» [(258)]
فقالوا إنه قال: «أفضل» والأفضل ليس بواجب.
ولكن هذا الاستدلالُ ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المرادَ هنا: بيانُ ثوابِ صلاةِ
الجماعةِ، وأنَّ أجرَها أفضلُ وأكثرُ، لا حُكمَ صلاةِ الجماعةِ، وذِكْرُ
الأفضليَّة لا ينفي الوجوب.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنَجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
*}{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}} [
الصف:
10 ـ 11] يعني: أخْيَر وأفضل، فهل تقولون: إن الإيمانَ بالله والجهاد في
سبيله سُنَّةٌ؟ لا أَحَدَ يقول بذلك.
وهل تقولون: إنَّ صلاة الجُمُعة سُنَّة، لأنَّ الله قال: {{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}}
[الجمعة] .
الجواب : لا أَحَدَ يقول بأنَّ صَلاةَ الجُمُعة سُنَّةٌ.



وقوله: «الرجال» أخرجَ به أيضاً الصبيانَ غيرَ البالغين، وخَرجَ بذلك
أيضاً صِنفٌ ثالثٌ وهم الخُناثى، والخُنثى هو: الذي لا يُعلم أذكرٌ هو أم
أُنثى، فلا تجب عليهم الجماعةُ، وذلك لأن الشَّرطَ فيه غير متيقَّن،
والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ وعدمُ شغلِها.
وقوله: «الرِّجال» يدخُلُ فيه العبيدُ، فتلزم صلاةُ الجماعةِ العبيدَ؛
لأنَّ النصوصَ عامةٌ، ولم يُسْتَثْنَ منها العبدُ، ولأنَّ حَقَّ اللهِ
مقدَّمٌ على حقِّ البشرِ، ولهذا لو أمرَه سيِّدُه بمعصيةٍ أو بترِك واجبٍ
حرم عليه أن يطيعَه، فإذا كان لا يجوزُ للعبد أن يفعلَ المعصيةَ أو يتركَ
الواجبَ بأمْر سيِّده، فكيف إذا لم يأمره؟ وهو إذا تَرَكَ الجماعةَ فقد
ترك واجباً، وهذا أحد القولين: أنها تلزم العبيد، كما تلزم الأحرار.
وكذلك الجمعة تلزم العبيدَ كما تلزم الأحرارَ من باب أَولى، لأنه إذا
وجبَ عليه حضورُ الجماعةِ التي تتكرَّرُ في اليوم والليلة خمس مرات،
فوجوبُ الجُمعةِ التي لا تكرَّرُ إلا في الأسبوع مرَّة مِن باب أَولى،
ولأنَّ الجماعةَ شرطٌ في الجُمعة بالاتِّفاق وليست شرطاً في صلاة الجماعة
إلا على قولٍ ضعيفٍ، فإذا سقطَ حقُّ السيدِ في الصلوات الخمس، وأوجبنا
على العبدِ أنْ يصلِّي جماعةً فإننا نوجب عليه أيضاً أن يصلِّي الجُمعةَ.
وقال بعضُ العلماءِ: تلزمُ العبدَ بإذن سيِّدهِ، وهذا هو الأقرب[(261)].
وعمومُ كلامِ المؤلِّفِ في قوله: «تلزم» أنها لازمة حتى في السَّفَرِ؛
لأنَّه لم يقيِّدها في الحَضَرِ، فإذا لم يقيدها أخذنا بالعموم والإطلاق،
فتجِبُ صلاةُ الجماعةِ حتى في السَّفرِ. ودليلُ ذلك: عمومُ أدلَّةِ
الوجوبِ.
وأيضاً: أنَّ اللهَ أمَرَ نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم إذا كان فيهم في
الجهادِ أنْ يُقيمَ لهم الصَّلاةَ جماعةً، ومِن المعلومِ أنَّ رسولَ
اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لم يقاتلْ إلا في سَفَرٍ. فعليه؛ تجبُ
الجـمـاعـةُ في السَّفرِ كما تجبُ في الحَضَرِ. وأيضاً: مداومةُ النَّبي
صلّى الله عليه وسلّم في السَّفَرِ على الصَّلاةِ جماعةً حتى في قضائها
حين غلبهم النَّومُ فلم يستيقظوا إلا بعد الوقت[(262)]. وقد قال:
«صَلُّوا كما رأيتموني أصلي»[(263)].
وقوله: «للصلوات الخمس» أي: أنَّها واجبةٌ للصَّلاةِ، وليست واجبةً في
الصَّلاةِ، لأنَّ الواجبَ تارةً يكون واجباً للصَّلاةِ، وتارةً يكون
واجباً فيها، فالواجبُ فيها: يكون مِن ماهيَّتِها مثل: التشهُّدِ الأولِ،
والتكبيرِ، والتَّسميعِ، والتَّحميدِ، والواجبِ لها: ما كان خارجاً عنها
مثل: الأذانِ، والإقامةِ، والجماعةِ، لأنَّ هذا خارجٌ عن ماهيَّةِ
الصَّلاةِ، فيكون واجباً لها، وليس واجباً فيها.
وقوله: «للصَّلوات الخمس» هي الفجرُ، والظُّهرُ، والعصرُ، والمغربُ، والعشاءُ.
إذاً؛ لا تجبُ الجماعةُ للمنذوْرةِ، أي: لو نَذَرَ الإنسانُ أنْ يصلِّيَ
لله ركعتين، ونذَرَ آخرٌ مثله فإنَّه لا تلزمهما الجماعة؛ لأنها ليست مِن
الصلوات الخمس.
ولا تجبُ للنَّوافلِ، فلو أراد الإنسانُ أنْ يصلي تطوُّعاً فإنَّه لا
يجبُ عليه أنْ تكون جماعةً؛ لأنَّها ليست مِن الصَّلواتِ الخمسِ.
ولكن؛ هل تجوزُ صلاةُ النافلةِ جماعةً، أو نقول: إنَّ ذلك بدعة؟
الجواب : في هذا تفصيل:
فمِنَ النَّوافلِ ما تُشرعُ له الجماعةُ، كصلاةِ الاستسقاءِ، والكسوفِ،
إذا قلنا: بأنَّ صلاةَ الكسوفِ سُنَّةٌ، وقيامَ الليلِ في رمضان.
ومِن النَّوافِل ما لا تُسَنُّ له الجماعةُ، كالرَّواتبِ التَّابعةِ
للمكتوبات، وكصلاةِ الليلِ في غيرِ رمضان، لكن لا بأسَ أنْ يصلِّيَها
جماعة أحياناً.
ودليلُ ذلك: أنَّ الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلِّي أحياناً
جماعةً في صلاةِ الليلِ كما صَلَّى معه ابنُ عباس[(264)]، وصَلَّى معه
حذيفةُ بنُ اليمَان[(265)]، وصَلَّى معه عبدُ الله بن مسعود[(266)].
وأحياناً يُصلِّي حتى غير صلاةِ الليلِ جماعةً، كما صَلَّى بـ«أنس...
وأمِّ سُليم ويتيم مع أنس»[(267)]. وكما صَلَّى جماعة في عِتْبَانَ بن
مالك رضي الله عنه في بيته؛ حين طلبَ مِن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم
أنْ يأتيَ إليه ليصلِّيَ بمكانٍ يتَّخِذُه عِتْبَانُ مُصلًّى، فَفَعَلَ
النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم[(268)].
وقوله: «للصلوات الخمس»، ظاهره: أنَّه لا فَرْقَ بين أنْ تكون مؤدَّاةً أو مقضيَّة.
فالمؤدَّاة: ما فُعِلتْ في وقتِها، والمقضيَّة: ما فُعِلتْ بعدَ وقتِها،
فلو أنَّ جماعةً في سَفَرٍ ناموا في آخر اللَّيلِ، ولم يستيقظوا لصلاةِ
الفجرِ إلا بعدَ طلوعِ الشَّمسِ، فالصَّلاةُ في حقِّهم قضاءٌ؛ لأنَّها
بعدَ الوقتِ، فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّ الصَّلاة جماعةٌ تجبُ عليهم.
وهذا الظاهرُ هو الصَّحيحُ أنَّها تجبُ للصَّلوات الخمس، ولو مقضيَّةً،
على أنَّ الإنسانَ الذي يؤخِّرُ الصَّلاةَ عن وقتِها لعُذْرٍ شرعيٍّ لا
تكون الصَّلاةُ في حَقِّهِ قضاءً، بل هي أداءً على القولِ الصَّحيحِ،
لقولِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ نَامَ عن صلاةٍ أو نسيَها
فليصلِّها إذا ذكرَها لا كفَّارةَ لها إلا ذلك»، وتلا قولَه تعالى:
{{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}}[(269)].
والدَّليلُ على الوجوب: عمومُ الأدلَّةِ. ولأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه
وسلّم لمَّا نامَ عن صلاةِ الفَجْرِ هو وأصحابُه في سَفَرٍ ـ كما في
حديثِ أبي قتادة ـ أَمَرَ بلالاً فأذَّنَ، ثم صَلَّى سُنَّةَ الفجرِ، ثم
صَلَّى الفَجْرَ كما يصلِّيها عادةً جماعةً، وجَهَرَ بالقِراءةِ[(270)] .
فإذا نامَ قومٌ في السَّفرِ، ولم يستيقظوا إلا بعدَ طلوعِ الشمسِ، قلنا
لهم: افعلوا كما تفعلون في العَادةِ تماماً، أذِّنوا، وقولوا: «الصَّلاةُ
خيرٌ مِن النومِ» وصَلُّوا سُنَّةَ الفَجرِ، وأقيموا الصَّلاةَ واجهروا
فيها بالقِراءةِ.
قوله: «لا شرط» عندي في نسختي «لا شرطاً» بالنصب؛ وفي نسخٍ أخرى، «لا
شرط» بالرفع والصحيحُ من حيث العربية «لا شرطٌ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف
تقديره لا هي شرطٌ»، أما لا شرطاً فلا تصح؛ لأن «لا» لا تتحمَّلُ
الضَّميرَ حتى نقولَ: إنَّ اسمَها مستترٌ، وإن «شرطاً» خبرُها، والمعنى:
أنَّ الجماعةَ ليست شرطاً في صِحَّةِ الصلاةِ، فلو صلّى الإنسانُ وحده
بلا عُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ، لكنَّه آثمٌ.

لاَ شَرْطٌ ............
وقوله: «لا شرط»، قد يقول قائلٌ: لماذا قال «لا شرطٌ»؟
فنقول: إن قوله: «لا شرطٌ» كان دَفْعاً لقولِ مَن يقول: إنَّها شرطٌ
لصحَّة الصلاةِ، وممَن قال: «إنَّها شرطٌ لِصحَّةِ الصلاةِ» شيخُ الإسلام
ابنُ تيمية رحمه الله، وابنُ عقيل. وكلاهما مِن الحنابلةِ، وهو روايةٌ عن
الإمامِ أحمد وعلى هذا القول: لو صَلَّى الإنسانُ وحدَه بلا عُذْرٍ
شرعيٍّ فصلاتُه باطلةٌ كما لو تَرَكَ الوضوءَ مثلاً.
وهذا القولُ ضَعيفٌ، ويضعِّفُه أنَّ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«صَلاةُ الجماعةِ أفضلُ مِن صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعِشرين درجةً» [(271)]
والمفاضلةُ: تدلُّ: على أنَّ المُفَضَّلَ عليه فيه فَضَلٌ، ويلزمُ مِن
وجودِ الفَضْلِ فيه أنْ يكون صحيحاً؛ لأن غيرَ الصحيحِ ليس فيه فَضْلٌ،
بل فيه إثمٌ، وهذا دليل واضحٌ على أنَّ صلاةَ الفَذِّ صحيحةٌ، ضرورةَ
أنَّ فيها فضلاً؛ إذ لو لم تكن صحيحةً لم يكن فيها فَضْلٌ، لكن شيخُ
الإسلام رحمه الله أجاب: بأنَّ هذا الحديثِ في حَقِّ المعذور، أي: مَن
صَلَّى وحده لعُذرٍ، فصلاةُ الجماعةِ أفضلُ مِن صلاتِهِ بسبعٍ وعِشرين
درجةً، قال: ولا مانعَ مِن وجودِ النقصِ مع العُذرِ، فهذه المرأةُ
وَصَفَها النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بأنَّها ناقصةُ دِيْنٍ؛ لتركها
الصَّلاةَ أيامَ الحيضِ[(272)]، مع أن تركَهَا للصَّلاةِ أيام الحيضِ
لعُذرٍ شرعيٍّ، ومع ذلك صارت ناقصةً عن الرَّجُل، وهي لم تأثم بهذا
التَّرْكِ، قال: فالمعذورُ إذا صَلَّى في بيته فإنَّ صلاةَ الجماعةِ
أفضلُ مِن صلاتِهِ بسبعٍ وعِشرين درجةً.
ولكن يَرِدُ عليه: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مَرِضَ
العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» [(273)]، فهذا
دليلٌ على أنَّ مَن تَرَكَ الطاعةَ لعُذرِ المرضِ كُتبت له.
ويمكن أن يجيب عنه: بأن المُرادَ مَن كان مِن عادتِهِ أن يفعلَ؛ لأنه
قال: «كُتِبَ له ما كان يعملُ صحيحاً مقيماً» ، ولكن مع كلِّ هذا؛ فإن
مأخذَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله في هذه المسألةِ ضعيف.
والصَّوابُ ما عليه الجمهور: وهو أنَّ الصلاةَ صحيحةٌ، ولكنه آثمٌ
لتَرْكِ الواجبِ، وأما قياسُ ذلك على التشهُّدِ الأولِ وعلى التكبيراتِ
الواجبةِ والتسبيحِ، في أنَّ مَن تَرَكها عمداً بلا عُذرٍ بطلت صلاتُهُ،
فهو قياسٌ مع الفارقِ، لأنَّ صلاةَ الجماعةِ واجبةٌ للصَّلاةِ، وأما
التشهُّدُ الأولُ والتسميعُ والتكبيرُ فهذا واجبٌ في الصَّلاةِ ألصقُ بها
مِن الواجبِ لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق